تمكّن الأستاذ وجدي الأهدل في روايته أرض المؤامرات السعيدة أن يغرق القارئ في لجّة التفاصيل ويسمو به إلى فضاء التفكّر والتأمل، في القالب السردي الذي اختاره يفرز أنماط وقوالب حياتية ويبرز أطر التمييز بينها وتفرعاتها وآثارها والاستراتيجية الفكرية لشخوص الرواية في التفكير والتعامل مع الأحداث وإدارة المشكلات والأزمات وطريقة إدارة الصراع والإتزان النفسي أثناء الضغوطات والمفاجآت، حيث كانت عتبة الرواية صراع نفسي ينمّ عن صراعات حياتية كبيرة: “كم أتذكر بوضوح تلك اللحظات المجنونة التي مرت على غفلة مني، فشطرت حياتي إلى نصفين، وبدأ منها عالمي المعهود المستقر يمر بتحولات جارفة، تفوق قدرة أي كائن بشري على التحمل!”! متاعب يقع فيها “مطهر” بطل الرواية في بداية رحلته إلى قرية في أحد أودية تهامة النائية تسمى باب المنجل لإجراء تغطية صحفية لحادثة ما، ليوجّه الأهدل أنظار القارىء إلى بساطة وتفاهة المشكلة في ذكاء كبير منه ليبرز لنا المفاجأة بمعناها، حادثة حصلت للطفلة “جليلة”، تصبح حدثاً مدوياً يبرز للسطح ولا ينتهي، وكان الإبداع في أن أحداث الرواية لم تكن تصاعدية لأنها بدأت من ذروة الحبكة واستمر الأهدل في السرد من هذه النقطة ليجعل من الرواية كلها حبكة تنطوي على حبكات مركبة مثيرة لشغف القارىء ويجعل من الرواية كلها نقطة ذروة، من بدايتها إلى نهايتها، وأتذكر في هذا الصدد مقولة: “الآلهة ترضى من الروح عمقها لا هياجها”، وأستطيع أن أستنبط منها جملة لوصف أرض المؤامرات السعيدة: “القارىء يرضى من الرواية عمقها وهياجها”، وهذا ما انطوت عليه الرواية، العمق والهياج، حدث له تبعات متتالية تجعله يتضخم، ليبدأ صراعاً لا ينتهي بين السلطات والقوى والأفراد وبين الفرد ونفسه، لتبرز محاولات للحد من قدرات المواجهة وإخلال توازن الخصوم وإرباكهم لفقدان السيطرة على الأحداث وتحقيق المكاسب، وتبين المقدرة على التعامل مع الحدث بأساليب غير نمطية لتحقيق الضغط، حيث أبدع الأهدل واستطاع بمقدرة فائقة أن يطوّع الفلسفة في قالب روائي مليء بالأحداث، يبين الحقيقة كوحدة غير قابلة للتجزئة، وبفكر فلسفي عميق تمكّن من تبيان الروح البشرية ودورها في تجزيئها وتفسيرها وتنميطها باختلاف الرغبات والغايات وبحسب وجهات النظر المختلفة ومزجها سردياً بطريقة تفاعلية فيها دافعية لشخوص الرواية للتعامل مع النتائج والأبعاد المتسعة والمتشابكة للرواية التي تحتاج عبقرية للاحتفاظ بالمنظومة السردية حيث أن تفاصيل العمل مليئة بالتحولات والالتواءات في فضاء مبني على التوتر، وتكمن قيمة الرواية في الأثر الذي تحدثه، سواء كان ذلك أثناء القراءة أو بعدها، فأرض المؤامرات السعيدة تحيل القارىء إلى صراع فكري عظيم، تنازع غير ملموس بين إفلاطون ووجدي الأهدل، حيث يرى إفلاطون أن الفنان محاكياً لمحاكاة ويجهل الاستعمال الصحيح للشيء المحاكى وطبيعته، بمعنى أنه قد يحاكي الحقيقة ولكنه لا يفهمها. ولكن وجدي الأهدل في أرض المؤامرات السعيدة استطاع أن يلمس الحقيقة، ويحاكيها، ويحكيها ويفهمها ويفهّمها. ليشير إلينا بأن حرية الفكر والحرية الأدبية هي فسحة العقل، ومؤشر نفسي لرحابة الدنيا وضيقها، ويبين طريقة النفس البشرية في تفسير الحقائق وتطويعها بحسب الغاية.