حدائق الرئيس: الواقعية المطلقة والرمزية التامة
ما زال الإبداع الانساني يسمو بالانحطاط البشري، مبيناً وكاشفاً أو ملامساً مقوّماً محاوراً للفكر أو الروح من أجل المبادىء الحياتية الراسخة والمتغيّرة، يسري مثل النهر شاقّاً طريقه في القلوب والعقول القابلة وناحتاً المتحجر منها، مبعثه الصراع الانساني الأبدي للفرد مع نفسه أو مع الآخرين – بصورة شخصية أو موضوعية- أو مع الوجودية والعدمية، تاركاً إرثاً إنسانياً عظيماً تأصّل في الجذور تأرث له نيران النفوس أو تضطرم متمردة كصفة منبتها لتنبثق رواية حدائق الرئيس للروائي محسن الرملي معلنة عن كيانها الروحي بصورة محسوسة وتجليّات انبّجست من الهوان والتنزّه حافظاً للفرد العراقي بشكل خاص والبشرية بشكل عام الكرامة الانسانية، أبدع الأستاذ محسن الرملي في الخِلقة السردية لحدائق الرئيس خالطاً بين مدرستي الواقعية المطلقة والرمزية التامة الوافية حتى أصحبت أمشاجاً، نسيج واحد محكم الفتل وثيق انسيابي وَوَسَقٌ يصعّب على القارئ التفريق بينهما، مشركاً إيّاه في أن يهوي خلف السطور في أرض أخرى بعيدة عن حبر الكلمات المتراكبة ليسمق محلّقاً يفكّك يصفّي ويغربل بين نقيين منقّباً عن المعاني الغائبة ليصل إلى العلّة واللب، البحث الانساني الدائم عن الحقيقة والاستقصاء في رحلة الحياة ومحطات الاستقرار والسفر والرحيل، العزلة والانزواء، المخالطة والانضواء. السرد في حدائق الرئيس بسيط وسلس جاذب كنبأ يحاكي جلّ المستويات، يحوي عمقاً محسوساً وغير محسوس يتسلقه القارئ بحسب إمكانياته. حذاقة الأستاذ محسن الرملي وتمكّنه من صنعته جعلته يختلق قصّاً روائياً مبتكراً يرتكز على نقاط انطلاق وهي الشخصيات والأحداث ولكن من غير مركزية، فكل نقطة عنده تنطلق في اتجاهات عدة في فوضى خلّاقة بنت رائعة محسن الرملي “حدائق الرئيس”، فقد نشاهد إحدى نقاط مرتكزاته تعود إلى الماضي ومن ثم تنطلق في صورة أفقية تلامس النقاط المجاورة فينطلق مرتكز آخر إلى المستقبل وتتخالط فيما بينها وتتشابك ويفككها بمهارة ودربة وانتقالات سلسة يستحيل معها أن يشعر القارئ بقطع في الأحداث أو اغتراب عن النص الروائي. يعلن الأستاذ محسن الرملي عن تحديه للقارئ بأن يضع خارطة للطريق وألغاز أو إشارات لرحلة بحث تفضي في نهاية المطاف لتأويل آخر ومعانٍ مختلفة على القارىء حلها وتفكيك رمزيتها، يتضح ذلك من النص بداءة من أسماء شخصيات الرواية مثل عبدالله كافكا وإبراهيم قسمة البسيط الراضي وطارق المندهش أو الشيخ وما لكل اسم من دلالات واختلافات أصولية وفكرية وصفاتية، فعلى سبيل المثال قد يرمز عبدالله كافكا إلى النضال وغرائبية الحياة وغموضها، البؤس والشقاء بين الدواوينية والمثالية، أو قد تشير إلى خلافات البطل مع أبيه، والأب قد يرمز أيضاً إلى العديد التأويلات والتفسيرات، ويبين لنا الأستاذ محسن الرملي ذلك في صفحة 80: “للحظة فكّر كيف أنه بين عمياوين، ظلامين، الولادة والموت، (وقد اعتاد على أن ثمة رموزاً في الكون دائماً)”، ومن هذه الرموز التي أوردها الأستاذ محسن الرملي في صفحة 118 عن شجرة شوكة البحر والتأويلات التي تحيلنا إلى الوجودية والمكانية الآنية، ولكن الإبداع في الرمزية عند الأستاذ محسن الرملي أنّه بناها ككيان مرن هلامي غير محسوس لا يحيل إلى فكرة واحدة فقط، ولكنه يحاكي فكر كل قارئ ليستنبط منها ما شاء بحسب خارطته الذهنية وقدراته التأويلية أو البحثية، فكما قيل: “جميع إمكانيات التأويل تظل مفتوحة، وكل واحدة منها تنطوي على شيء ما شبيه بالحق، لكن ليس بين هذه الإمكانيات إمكانية واحدة مؤكدة بصورة واحدة وثابتة”. وذلك ما تحيلنا إليه نهاية حدائق الرئيس من سوداوية تشرذم وتفرق، أو بيضاوية البحث عن الحقيقة من بين الأشلاء والتاريخ، وذلك بحسب الزاوية التي ينظر منها القارىء نفسه، ليخلط الأستاذ محسن الرملي بين استراتيجيتين في الكتابة بصورة إبداعية، وهما: جلوس الكاتب في برجه العاجي ليفهمه الناس ويصلوا إليه، وبين أن يكون الكاتب لسان المجتمع وحاله.
Leave a Comment