باميلا بول –
ترجمة : بدر بن خميس الظفري –
سوف أطرح عليك أيها القارئ تحديًا يتعلق بالقراءة: تناول أي كتاب تعتقد يقينا أنه لن يعجبك، كتاب أسلوبه يبدو غير صحيح، ليس من الكتب التي تجذبك لقراءتها، كتاب سيرة مؤلفه لا تروق لك. بل دعونا نجعل هذا التحدي أكثر صعوبة. تناول كتابًا تعتقد أنك سوف تكره قراءته، من الكتب التي تحمل موضوعات توقفت عن قراءتها منذ أيام الثانوية، وكتبه كاتب تميل إلى تجنب قراءة مؤلفاته. الآن اقرأه بمرارة حتى آخر صفحة فيه.
هل تشعر بالضيق؟ نعم، ولكننا خطونا خطوة للأمام في هذا التحدي حتى الآن.
هذا التحدي لا يتعلق بمتعة ذاتية تكمن في قراءة كتاب نعلم أنه لا يروق لنا، كالقضاء على شخص شرير بين أيدينا بسرعة وعنف، بل يتعلق بالحصول على كتاب يتحداك ثم تقوم بالانكباب على قراءته حتى آخر كلمة فيه.
في الوقت الذي يحصر بعض الأشخاص أنفسهم لاستقاء معلوماتهم في مصادر محددة في عالمهم الملون مثل من يتابعونهم على تويتر أو حفلات المساء التي يرتادونها أو قناة آم توك الإذاعية أو إذاعة إن.بي.آر، فإنه ليس من الغرابة أن نجد معظمنا يقرأ كتبًا يميل إلى حبها.
إن القراءة متعة وتأخذ في الوقت نفسه وقتًا كبيرًا، والسؤال المطروح هنا: لماذا نتعب أنفسنا في قراءة شيء لا نميل إليه؟
إن قراءة شيء تكرهه يساعدك على غربلة ما تثمـنه، سواء كان أسلوب الكتاب أم حبكة القصة أم الموضوع، ولأن الكتب طويلة في صفحاتها، فإنها تتطلب الكثير من الجهد -سواء من الكاتب أو من القارئ- أكثر مما تتطلبه مشاهدة برنامج حواري أو رابط للفيسبوك. تستطيع أن تنهي مشاهدة فيلم خلال ساعتين ثم تنسى أمره، لكن الأمر مختلف مع الرواية، فعندما تكرس نفسك لقراءة 300 صفحة متواصلة فهذا يعني أنك تدخل نفسك في عالم شخص آخر وتكتشف مشاعره وأحاسيسه. وهذا أحد الأسباب التي تجعل من الصعوبة أن تصرف نظرك عن الكتب التي تزدري قراءتها. فبدلًا من أن ترمي الكتاب جانبا، أقلب الصفحة التالية، وخض صراعًا مع الأفكار التي تحويها، ولكن ماذا لو شعرت بعدم الراحة عند قراءتها؟
بدأت في القراءة مع الكراهة برواية «ذا فاونتين هيد» والتي فتحت صفحاتها وأنا أجهل تمامًا ماهيتها، فكان كل ظني أنها تتعلق بمقرر مادة في الكلية يتحدث عن فنّ العمارة في القرن الحادي والعشرين، لم أكن أعلم شيئًا عن الكاتبة آيان راند أو عن مصطلح الموضوعية، كنت أظن أن الكتاب يتحدث عن هندسة البناء حتى أنني أريته صديقا فرنسيا وهو مهندس معماري واشتراكي متعصب معتقدة أنه سيعجب به.
سألني وهو متقزز: «كيف فكرت في جلب هذا الكتاب إلى منزلنا؟» فأجبته بصوت منخفض: لكنه يتحدث عن هندسة العمارة، أليس كذلك؟ وبعد قراءة عدة صفحات، وجدت نفسي أعاني بين يدي بطل الرواية الاستبدادي الأناني هاوارد رورك، كلما كان يغمس قبضة يده في التراب، ويتحدث طويلا بعجرفة. وكانت الشخصية الأنثوية الرئيسية دومينيك -التي تأتي في المرتبة الثانية بعد الشخصية الأسطورية رورك- تمشي بين الغرف وهي ترتدي فستانا يشبه عمودًا في طوله.
وظللت مصرة. وبعد قراءة 100 صفحة، أصبحت أشبه اشتراكيًا فرنسيًا أكثر مما كنت من قبل. لقد أنهيت كل صفحة رديئة من «ذا فاونتين هيد» في حالات متقلبة بين الغضب واليأس. وأخـيرًا عندما انتهيت منها، حاولت أن أترك خلفي صدى دومينيك المبهم وهو يصدح بقوة في أثوابها المسائية. إن الفكرة التي خطرت في بالي في تلك اللحظة هي يقيني التام أنني لم أكن ولن أصبح أبدا ليبرالية.
عندما كنت أقرأ في أيام مرحي الأولى، كنت بكل بساطة أسمح لمحتويات الكتاب أن تجتمع بانسجام في رأسي ثم أرتبها بعد انتهائي من القراءة. وسواء استمتعت بقراءة كتاب ما أم لا، فإنني لم أتعلم حقيقة كيف أقرأ إلا من خلال سبر أغوار الكتب التي كرهتها، والتي أشعلت فيَّ مشاعر الغضب والسخط.
إن الروح الدفاعية تجعلك قارئًا أفضل أو بعبارة أخرى قارئا ناقدا، فالنقاش الذهني مع الكاتب خلال القراءة يدفعك إلى الحصول على أدلة لآرائك المضادة لآرائه، وقد تجد نفسك تبحث بإصرار عن مراجع أخرى تناقش فيها أفكار الكتاب الذي بين يديك، وقد تصل في نهاية الأمر إلى تكوين رأي شخصي مستقل.
وكما يعلم المشتغلون بالمناظرات، فإنك أحيانا لا تستطيع معرفة قدر نفسك إلا بعد مواجهة خصمك، فبالنسبة لي كل ما أحتاجه من أجل تحديد موقفي من تفسير التاريخ هو قراءة كتاب ألفه هوارد زين أو بول جونسون، وكلاهما له أسلوب متطرف مكروه، وهذا بالضبط ما يدعوك إلى ممارسة القراءة مع الكراهة.
إن صراعك النشيط مع أفكارك والدفاع عن استنتاجاتك هو ما يجعلك تشعر بأن لك معنى، هو ما يجعلك تعرف أين تقف بالضبط حتى ولو كنت على الحياد.
لطالما كرهت طريقتي في قراءة الكثير من الكتب، لكنني كنت أصر قائلة في نفسي: سأقرأك أيها الكتاب مهما صعب عليّ ذلك. إلا أنني كلما واصلت القراءة، أجد عادة مشاعر مختلطة من القرف والخوف والانجذاب المنحرف، وحتى في بعض الأحيان ضغوطات معقدة من الشفقة والتعاطف، وهذا ما يجعل نقد الكتب السلبية – في جزء منه – جذابًا جدًا.
إحدى أقسى المراجعات النقدية التي قمت بكتابتها كان عملا مستقلا كلفتني به هذه الصحيفة، وقد كان موضوع الكتاب الذي كلفت بمراجعته عن كيفية تربية الأطفال، وفي الحقيقة رغبت في أن أعجب بذلك الكتاب وكنت بالفعل متفقة معه في كثير من الأطروحات، ولكن المؤلفين كانوا ساذجين في بعض أبحاثهم، وبطريقة أو بأخرى فقد خدم ذلك كتابهم. وكما كتبت في نقدي للكتاب فإن «ولع المؤلفين بوصف الدراسات النفسية والمشروعات البحثية كما لو كانت تجارب كيميائية مع استعمال عبارات مثل «اختبار التحليل العلمي» و«علم العلاقات بين النظراء» يستحضر صورة توماس دولبي وهو يحث على «التجارب العلمية».
شعرت بأنني متلاعَبٌ بي، وأحسست بالخيانة سواء من جهة شخصية (لقد قمت بتأليف كتاب يتحدث عن تربية الأبناء ووقف شعر رأسي من ضعف الأسلوب الأدبي) أو بالنيابة عن القراء الذين قد لا تكون لديهم الخلفية الكافية لتحليل المعلومات. إن الآباء الجدد هم الأكثر عرضة لهذه الخيانة أعرف ذلك لأنني كنت واحدة منهم.
إن الكتاب الذي يحث على العداء قد يكون مشوقا وتعليميا، وقد يحدثك -أيها القارئ- عن نفسك أو عن موضوع ما أكثر مما تظن أنك تعرف، وقد تصل إلى مرحلة يتحداك فيها لتغيير أفكارك.
وبطبيعة الحال فإن الكثير من الكتب التي تكرهها بكل بساطة توضح وتؤكد، وأستطيع أن أخبرك بكل وضوح أنني اشمأززت من رواية «فلاشمان» للمؤلف جورج ماكدنونالد فريسار، بالرغم من مرور 15 عامًا منذ أن قرأتها، فهي رواية تعبدية لم تكن فألا جيدًا لي عندما قرأتها بعد أن أشار إليّ أحد الأصدقاء بذلك. ولسبب ما، فعندما أتعاطى مع الأدب التعبدي فإنني لا أكون جزءًا من تلك العبادة أبدا. وكما كان الكاتب وودهاوز محبوبا ولكن من قبل أشخاص قليلين، كانت رواية فلاشمان محبوبة أيضا، وتم نشرها في عام 1969 وكانت الأولى في سلسلة من الروايات عناوين كل واحدة منها بمثابة صفعة على الوجه، مثل (فلاشمان أند ذا ريد سكينس، وفلاشمانس ليدي). لقد كان على غلاف رواية فلاشمان صورة لشخص متعجرف مرتديا زيا، وخلفية غريبة عبارة عن عذراء مكشوفة الصدر، وكما تعلم ففي كثير من الأحيان تستطيع قراءة الكتاب من غلافه.
ولكني واصلت القراءة على أيّ حال، وهناك التقيت بشخصية عنوان الكتاب وهو هاري باجيت فلاشمان الذي عربد في الإمبراطورية البريطانية ونزل في كل من اسكتلندا والهند وأفغانستان، وترافقه شخصيات أخرى من التاريخ البريطاني مثل جون أوكلاند- الحاكم البريطاني العام للهند، وتوماس آرنولد – مدير مدرسة رياضة الرجبي وغيرهم، ولكن الأحداث الرئيسية تتعلق بشخصية فلاشمان، الفارس في الجيش البريطاني، السكير وزير نساء، الذي يتهرب من المبارزة ويتجه بقوة لممارسة الجنس.
يقضي معظم وقته مع العاهرات ولكنه أيضًا يستمتع باغتصاب راقصة أفغانية. ليس لدي اعتراض على أي شخصية رئيسية جيدة، ولكن بالنسبة لهذا الشخص، فإنني لم أستمتع حتى بكرهه. كل ما أردته أن أكون بعيدة عنه، وليس هذا فحسب، بل أردت أن أبتعد عن صديقي الذي اقترح عليّ قراءة الرواية. وفي الحقيقة، فإن هذه الفكرة بالذات كانت مفيدة جدًا.
إلا أنه في الوقت نفسه، يمكن للقراءة مع الكراهة أن تجمع الناس مع بعضهم البعض، فبدون شك إنه لشيء جيد أن يقبل الناس على قراءة الكتب التي تحبها، ولكن المتعة تكون أكثر تشويقًا عندما تجد شخصًا آخر يمقت الكتاب نفسه بالقدر الذي تمقته أنت (أهلا بزملائي الذين يتقززون من رواية «بيكويك بيبيرس»)، وهذا ما يجعل النقاد يحبون الإحساس بالأسى اتجاه ما يقرأون. إن أحد أهم النقاشات القوية التي أجريتها مع غيري من القراء كانت حول الإحباط والتقزز الذي أحسسنا به تجاه ما قرأناه معًا. إذن، استمر وتمسك بما تكرهه. أو اكرهه بينك وبين نفسك آخذًا في الاعتبار أن هناك شخصًا ما في مكان ما يرغب في ضرب هذا الكتاب البائس الذي تقرأه بعرض الحائط، ولكن كل ما أرجوه أن تنتهي من قراءته قبل أن تفعل ذلك.
عن : نيويورك تايمز
Leave a Comment