٠١ مارس
0 Comment(s)
846 View(s)
“إن الرواية التي لا تغيِّر المؤلِّف ولا القرّاء ليست ضرورية.” موريس نادو
:فكرة المبتدأ
كيف سأستطيع؟ ومن أين ستتولد الفكرة الأولى؟ وكيف ستتدفق باقي الأفكار إلى أن تؤول في تراصِّها وانتظامها إلى توليف مكتمل ومتناسق؟
أسئلة بديهية يواجه بها كل يوم من يكتب أو يبدع أو ينتج أو يخلق شيئا جديدا غير مسبوق في ماهـيته أو هـويته أو تمَـرُّده. ففي عالم الخلـق والكـشف والتجـلي كلٌّ مُيَّسر لما يحـتكِـم إليه من أدوات إبـداع أو تقـعيد أو نـقـد أو ترميم أو تحليل أو نظر أو تقويـم. ومهما اختلفت الأدوات وتباينت الطرق وتعددت الطرائق تكمُن في الأصل خلف كل فِعْـلٍ نـواة/فـكرة. لكن أيسـتطيع الميل الأدبي أن يكون واعيا بما سيؤول إليه مساره قبل المنتهى و نفض اليد من كل اشتغال؟. ليست الإجابات إلا تحييناً لاحـتمال مؤقَّت لكل تلك الاستفهامات، و قد يكـون ذلك سبـبا من بين الأسـبـاب التي جعـلـت البعـض لا يـتـوانى عن تخـصيـص كـتب أو مقالات أو مقدمات كتب للإجابات، بينما أحجم الآخرون عن دخول هذا النفق مكتفين بما ينثرونه في مفاصل أعمالهم وحواراتهم من كشف لبعض ملامح مختبراتهم السرية.
لننصت لبعض ما قد كتبوه، أو نثروه.
:البذرة والشجرة
يرى غابرييل غارسيا ماركيز أن سؤال “كيف تُكتب الرواية؟” (ترجمة صالح علماني) يحتمل إجابات متنوعة بحسب من يوجه السؤال، وقد يُمَكِّن هذا التنويع من الوصول إلى الحقيقة، لأن “أكثر من يسألون أنفسهم كيف تُكتب الرواية هم الروائيون بالذات. ونحن نقدم لأنفسنا أيضا إجابة مختلفة في كل مرة.” ويضيف: “أنا أعني بالطبع الكتاب الذين يؤمنون أن الأدب هو فن موجَّه لتحسين العالم. أما الآخرون ممن يرون أنه فن مكرَّس لتحسين حساباتهم المصرفية، فلديهم معادلات للكتابة ليست صائبة وحسب، بل ويمكن حلّها بدقة متناهية كأنها معادلات رياضية. والناشرون يعرفون ذلك.”
ويثير ماركيز الانتباه في سياق استعراضه لما يفرضه على أفكاره أو بذرات نصوصه من رقابة تفضي بها أحيانا إلى سلة المهملات بعد تمزيقها بطريقة لا يمكن معها إعادة ترقيعها ثانية، إلى أن المسألة ليست في كتابة رواية ـ أو قصة قصيرة ـ وإنما في كتابتها بجدية، حتى ولو لم تُبَعْ فيما بعد ولم تَنَل أية جائزة، فوفق منظور ماركيز الشيء الوحيد الذي يفوق الحديث في الأدب هو صناعة الأدب الجيد. ويستحضر في ضوء ذلك الحادث الذي علَّمه ضرورة أن يكون التمزيق غير قابل لإعادة الترقيع. وهو حادث استعادة صديقه الشاعر خورخي غيتان لفصل كامل كان ماركيز قد انتزعه من روايته الأولى “عاصفة الأوراق” ومزقه، وكانت الرواية قد نشرت حينها. لكن صديقه الشاعر استعاده من سلة المهملات ورقّعه بنهمه الذي لا يرتوي نحو الأدب ـ أمام استسلام ماركيز لإلحاحه ، ونشر الفصل على أنه قصة قصيرة قوبلت بعدها بأفضل إطراء من جانب النقاد والقراء. وبعيدا عن معرض المقارنة بين الرواية والقصة القصيرة يؤكد ماركيز: “إن تمزيق القصص القصيرة أمر لا مناص منه، لأن كتابتها أشبه بصب الإسمنت المسلح. أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر. وهذا يعني أنه إذا لم تنجح القصة القصيرة من المحاولة الأولى فالأفضل عدم الإصرار على كتابتها. بينما الأمر في الرواية أسهل من ذلك: إذ من الممكن العودة للبدء فيها من جديد.”
:الجذر للأرض والأفرع للسماء
يورد إرنسـتو سـاباتو في معرض حـديثه عن “الكـتابـة بين الخطـط والأعـمال” ضمن مـؤلفه المدهـش “الـكـاتب وأشـباحه” (نقله عدنان المـبارك إلى اللغة العربية تحت عنوان “الكاتب و كوابيسه”) حكايةَ دوستويفسكي مع إحدى أشهر رواياته؛ فقد “كان في نية دوستويفسكي كتابة مقال تعليمي يحارب الإدمان على الكحول في روسيا، تحت عنوان “السكيرون”، لكن بدل ذلك جاءت روايته “الجريمة و العقاب”
ويؤكد أمبرتو إيكو أن الرغبة هي حافز مشروعه الروائي الذي افتتحه بين السنة السادسة والأربعين و الثامنة والأربعين من عمره بكتابة روايته الأولى “اسم الوردة”، حيث يقول في مقاله “كيف أكتب؟”: “إن القول إن رغبة ما استبدت بي لكتابة رواية يبدو لي سببا كافيا”. (ضمنت ماريا تيريزا هذا المقال في كتابها المَبـني على أسئلة عديدة وجهتها إلى مجموعة من الـكـتاب، تتعلق بطـرائـقهم في الـكـتابة ومنها السؤال المحور “كيف أكتب؟” الذي يجيب عليه إيكو في المقال. ترجمه سعيد بن كراد مع مقالين آخرين لإيكو ضمن كتاب “آليات الكتابة السردية”.) يلاحق أمبرتو إيكو ضمن مقاله الأفكار/الصور الأولى التي ولَّدت رواياته “اسم الوردة” و “بندول فوكو” و”جزيرة اليوم السابق” و”باودولينو”. (كانت روايـتاه الأخيرتان “مقبرة براغ” و “العدد صفر” لحظة تدوينه للمقال مخطَّطين قيد الإعداد والبناء.) ويعرض فيه طقوسه في الكتابة الإبداعية ودوافعه وصيرورات تشييده لعوالمه التسريدية بدءً من فكرة البذرة إلى بناء العالم إلى إبداع الأسلوب. وإيكو مثلما هو معروف عنه ينشغل بالـبحث في الجـزئيات الدقـيقة والتنقيب عن تفاصيل الأشياء والأمكنة والشخصيات قصد رسم عالمه السردي بكل دقة. لأجل ذلك توقف عن الكتابة لمدة سنة كاملة وهو يشتغل على “اسم الوردة”، وتوقف لأكثر من سنتين اثنتين بالنسبة إلى “بندول فوكو”، لكي يقرأ ويرسم الخطاطات. فالعالم الذي يخترعه عليه أن يكون دقيقا كي يتحرك داخله بثقـة مطلقة. ففي حالة “اسم الوردة” يقول: “رسمت العديد من المـتاهات وتصاميم لأديرة استنادا إلى رسوم أخرى واستنادا إلى أماكن زرتها، ذلك أنني كنت أود أن يشتغل كل شيء. وكنت أود أن أعرف المدة الزمنية التي يستغرقها تنقل شخصيتين من مكان إلى آخر وهما تتجاذبان أطراف الحديث. وهذا ما كان يحدد مدة الحوار.” قد يكون الأمر غير ذي تأثير على تطور القصة وإيكو يؤمن بأن الأثر ضئيل لكنه رغم ذلك إن لم يستوف الأمر لا يمكنه سرد أي شيء. إنها رغبة جارفة في خلق ألـفة داخل الـمكان الموصوف تمده بالـقدرة على الـكـتابة والسرد، وحاجة ملحة للتعرف على شخصياته حتى يتمكنوا من القول أو الفعل عندما يعطيهم الكلمة أو يدفعهم لفعل شيء ما. لأجل ذلك رسم بورتريهات جل رهـبان الدير عن رواية “اسم الوردة”. وقضى ليالي كثيرة في معهد الـموسيقى والفنون إلى أن تغلق أبوابه؛ ففيه تدور بعض مغامرات قصة “بندول فوكو”. يقول عن هذه الرواية: “أشير في “بندول فوكو” إلى وجود دارين للنشر مانيزيو وغراماند ضمن مؤسستين متجاورتين وبينهما ممر بمدخل له ثلاث درجات. لقد قمت بحسابات كثيرة لمعرفة هل بالإمكان قيام ممر بين العمارتين، وهل يجب القيام بتسوية للأرض من خلال تصاميم عديدة. إن القارئ يصعد تلك الدرجات دون الانتباه إلى ذلك (أعتقد) ولكن الأمر كان بالنسبة إلي أساسياً”
:من الزهرة إلى الثمرة
لئن صرح إرنستو ساباتو بأن “الأعمال التالية للروائي مثل المدن المشيّدة على أنقاض السابقة، فرغم أنها جديدة فهي تجـسّد الخـلود وتلقي توكيدها في وجود حكايات شخصيات وأحوال وأهواء ونظرات ووجوه عائدة باستمرار.” فإن ماريو بارغاس يوسا يرى أن كل القصص التخييلية هي “هندسات معمارية تنتصب بالمخيلة والحرفية استنادا إلى بعض الأحداث والأشخاص والظروف التي تركت أثرا في ذاكرة الكاتب وحركت خياله المبدع الذي راح يبني، انطلاقا من تلك البذرة، عالما متكاملا شديد الغنى والتنوع إلى حد يبدو معه، أحيانا، أنه من المستحيل التعرف فيه على المادة الأولية المأخوذة من السيرة الذاتية التي كانت أساسه ومبتدأه، والتي هي بطريقة ما صلة الوصل السرية لأي قصة تخيلية بعالمها ونظيرها: الواقع الواقعي”
ويعلن يوسا ضمن رسائله لكل روائي شاب (ترجمها صالح علماني) أن من يمتلك الميل الأدبي عليه أن يعيش ممارسة ذلك الميل بوصفه المكافأة الأفضل التي يمكن له أن ينالها نتيجة لثمرات ميله. “فالكاتب يشعر في أعماقه بأن الكتابة في نظره هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن له أن يحققها من خلال ما يكتبه.” والميل الأدبي مع يوسا استعداد أولي فطري مصاغ في الطفولة أو الشباب المبكر، ويأتي الخيار العقلاني لتعزيزه وليس لصنعه. بيد أن ذلك الميل الأدبي في عرف يوسا ليس تزجية للوقت أو رياضة أو لعبة راقية تُمارس في أوقات الفـراغ. “إنه انكباب حصري و إقصائي لما عداه، وشأن له أولوية لا يمكن أن يُقدّم عليه شيء آخر، وعبودية مختارة بحرية، تجعل من ضحاياها (من ضحاياها المحظوظين) عبيداً… ذلك أن الميل الأدبي يتغذى على حياة الكاتب، بصورة لا تزيد و لا تنقص عن تغذي الدودة الوحيدة المتطاولة على الأجساد التي تقتحمها… إن من تبنى هذا الميل الجميل والمُمْتَص لا يكتب ليعيش، بل يعيش ليكتب”
:بعـدَ الرّحـيق.. بعْـضُه
يقر ساباتو: “ليس هناك أمر أكثر خطلا من مطالبة الأدب بشهادة اجتماعية وسياسية. فأن تكتب بكامل الحرية يعني الكتابة بدون أي مطالب أخرى. وإذا كان الفنان يمتلك العمق فهو بلا شك يعطي الشهادة على ذاته والعالم الذي يحيا فيه، وعلى المصير الإنساني في أزمانه. ولأن الإنسان مخلوق سياسي و اقتصادي و اجتماعي و ميتافيزيقي فإن العمل الفني سيكون ـ و بالعمق الذي يناسبه ـ وثيقة الكينونة في زمان و مكان محددين.”
و يجيب في آخر كتابه “الكاتب و أشباحه” عن سؤال: من المبدع؟ فيقول: ” إنه الإنسان الذي يعثر في شيء معروف (جيدا) على أشياء غير معروفة”
“المصدر صحيفة “قاب قوسين
سعيدة تاقي*
روائية وأستاذة وباحثة جامعية من المغرب
Leave a Comment