اعترافات أكاديمي متقاعد  الروح مرصد ومصدر


التساؤل لبّ المعرفة، وإدراك حدود العلم إدراك يعلمه الحاذق، فيتنبّه لإمكانياته ويفطن إلى ما فاته، ويدرك حينها حجم الفجوة بين إمكانياته والمستوى الذي يستطيع الوصول إليه، فيشحذ الهمم، يشمر عن أكمامه ويربط على بطنه مدركاً طريق الوصول، ولا يتأتى ذلك إلّا بالتأمل الهادىء والانفصال عن مشاغل ومنغصات الحياة، في جلسة الأنا مع الأنا و(اعتراف) مع الذات. في لحظة كتلك تنبت بذرة غرست في أرض الروح لسنين، يقتنصها الفطن ويدوّنها، وقد تكون تلك اللحظة بمساعدة خارجية كما حصل مع الدكتور عبدالخالق عبدالله عند لقاءه بـ “أرسولا” في برلين، اللقاء أثار في نفسه التساؤلات التي أسندت بالهدوء والسكون والموسيقى الكلاسيكية لتلامس نقاطاً عميقة في ذات الدكتور عبدالخالق عبدالله، أحس بها، ثم انتبه لها، اطلع، استخلص، فقه ووعى لتخرج فكرة كتاب “يوميات أكاديمي متقاعد” من جب النسيان إلى الإدراك العقلي وتطرق بابه بإلحاح طالبة تدوينها وترسيخها في كتاب ككيان خاص له رؤية حانت لحظة خروجه للحياة، لتنفجر ثروة أو ثورة وجدانية وأفكار رؤيوية ووقوف على أطلال ذكريات لمعانقة آفاق بعيدة وملامسة مجاهيل غابت عن البال في ذلك الأوان، وتوثيق لحظات مفصلية في الحياة، لتبقى الروح مرصداً وجدانياً وتأريخياً ومصدراً للحضارات والذات البشرية والعلاقات الإنسانية.


اعترافات أكاديمي متقاعد للدكتور عبدالخالق عبدالله، مفاجأة من العيار الثقيل تدرك من قراءة أول سطر والذي يجبر القارىء على سبر صفحاته متجاوزاً عتبة الكتاب التي قد توحي من الوهلة الأولى بأنه كتاب أكاديمي جاف أو اعترافات حزينة لمتقاعد كما زرع في الخارطة الذهنية لأغلبنا، بحنكة يوقظ الدكتور عبدالخالق عبدالله حس القارىء من البداية ويهزه ليضعه في طريقه السردي وطريقته الحكّائية بأحداث نابضة بالحياة والحركة والتمدد عبر مرتكزات سردية مبدؤها الراوي ليتجاوز بذكاء عتبة السكون الموحش والتعرف على النص الذي يعاني منه أغلب القرّاء عند بداية قراءة أي نص أدبي، يستمر السرد عبر عدة مرتكزات في إبداع أدبي من مواقف ومعاينات ومشاهدات وذكريات، إلى أفكار ورؤى وتطلعات وانتقادات ورغبات وتوصيات، وبيانات ومعلومات وتاريخ وعلوم وأدب وثقافة وسياسة وتعليم ورياضة، يشق السرد طريقه على شكل فوضى خلّاقة حيث ينتقل القارىء بين كل ذلك ويعود إلى الماضي وينتقل إلى المستقبل ويهبط في الحاضر من غير أن يشعر بانقطاع الخيط السردي أو الضياع والتشتت. ساهمت القراءات الكثيرة والعميقة والتجربة الحياتية الكبيرة للدكتور عبدالخالق عبدالله في ضبط ميزان البلاغ الكتابي من حيث العمق الفكري والسلاسة ليرقى عمله في مصاف الأعمال الأدبية الفريدة بما قدمه من قيم تدبرية وفكرية وتبصرية ولغوية ومعرفية في قالب من المتعة القصّية يجذب القرّاء من مختلف المستويات، مبدعاً في كتابة نصٍّ أدبي مخنلط بين السيرة الذاتية والرواية وأدب الرحلات والفلسفة والفكر، مستدعيّاً واجبه الوطني بالتوثيق والتأريخ للحركة الثقافية والعلمية والأكاديمية وانطلاق منظمات المجتمع المدني وتطورها.


عند انتهائي من قراءة اعترافات أكاديمي متقاعد للدكتور عبدالخالق عبدالله تذّكرت مقولة للدكتور هشام شرابي رحمه الله: “إنه في تحليله الناقد لا يبغي معرفة أكاديمية مجردة بقدر ما يهدف إلى إحداث تغيير في المجتمع ذاته، في بنيته وعلاقاته ومسلك أفراده، هنا تصبح المعرفة أداة تحرير وانعتاق”.